فصل: تفسير الآية رقم (42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (42):

{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)}
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون} خطاب لكل من توهم غفلته تعالى، وقيل: للنبي صلى الله عليه وسلم كما هو المتبادر، والمراد من النهي تثبيته عليه الصلاة والسلام على ما هو عليه من عدم ظن أن الغفلة تصدر منه عز شأنه كقوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} [القصص: 88] {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام: 14] أي دم على ذلك، وهو مجاز كقوله تعالى: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ} [النساء: 136] وفيه إيذان بكون ذلك الحسبان واجب الاحتراز عنه في الغاية حتى نهى عنه من لا يمكن تعاطيه، وجوز أن يكون المراد من ذلك على طريق الكناية أو المجاز رتبتين الوعيد والتهديد، والمعنى لا تحسبن الله تعالى يترك عقابهم للطفه وكرمه بل هو معاقبهم على القليل والكثير، وأن يكون ذلك استعارة تمثيلية أي لا تحسبنه تعالى يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ولكن معاملة الرقيب المحاسب على النقير والقطمير، وإلى هذه الأوجه أشار الزمخشري. وتعقب الوجه الأول بأنه غير مناسب لمقام النبوة لأنه عليه الصلاة والسلام لا يتوهم منه عدم الدوام على ما هو عليه من عدم الحسبان ليثبت، وفيه نظر.
وفي الكشف الوجه هو الأول لأن في إطلاق الغافل عليه سبحانه وإن كان على المجاز ركة يصان كلام الله تعالى عنها، وفي الكناية النظر إلى المجموع فلم يجسر العاقل عليه تعالى عنه، ويجوز أن يكون الأول مجازًا في المرتبة الثانية بجعل عدم الغفلة مجازًا عن العلم، ثم جعله مجازًا عن الوعيد غير سديد لعدم منافاة إرادة الحقيقة.
والأسلم من القيل والقال ما ذكرناه أولًا من كون الخطاب لكل من توهم غفلته سبحانه وتعالى لغير معين، وهو الذي اختاره أبو حيان، وعن ابن عيينة أن هذا تسلية للمظلوم وتهديد للظالم فقيل له: من قال هذا؟ فغضب وقال: إنما قاله من علمه، وقد نقل ذلك في الكشاف فاستظهر صاحب الكشف كونه تأييدًا لكون الخطاب لغير معين، وجوز أن يكون جاريًا على الأوجه إذ على تقدير اختصاص الخطاب به عليه الصلاة والسلام أيضًا لا يخلو عن التسلية للطائفتين فتأمل، والمراد بالظالمين أهل مكة الذين عدت مساويهم فيما سبق أو حنس الظالمين وهم داخلون دخولًا أوليًا، والآية على ما قال الطيبي مردودة إلى قوله تعالى: {قَلَ تَمَتَّعُواْ} [إبراهيم: 30] {وَقلَ لّعِبَادِىَ} [إبراهيم: 31] واختار جعلها تسلية له عليه الصلاة والسلام وتهديدًا للظالمين على سبيل العموم.
وقرأ طلحة «ولا تحسب» بغير نون التوكيد {إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ} يمهلهم متمتعين بالحظوظ الدنيوية ولا يعجل عقوبتهم، وهو استئناف وقع تعليلًا للنهي السابق أي لا تحسبن الله تعالى غافلًا عن عقوبة أعمالهم لما ترى من التأخير إنما ذلك لأجل هذه الحكمة، وإيقاع التأخير عليهم مع أن المؤخر إنما هو عذابهم قيل: لتهويل الخطب وتفظيع الحال ببيان أنهم متوجهون إلى العذاب مرصدون لأمر مالا أنهم باقون باختيارهم، وللدلالة على أن حقهم من العذاب هو الاستئصال بالمرة وأن لا يبقى منهم في الوجود عين ولا أثر، وللإيذان بأن المؤخر ليس من جملة العذاب وعنوانه، ولو قيل: إنما يؤخر عذابهم لما فهم ذلك.
وقرأ السلمي. والحسن. والأعرج. والمفضل عن عاصم، ويونس بن حبيب عن أبي عمرو. وغيرهم {نؤخرهم} بنون العظمة وفيه التفات {يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ} هائل {تَشْخَصُ فِيهِ الابصار} أي ترتفع أبصار أهل الموقف فيدخل في زمرتهم الظالمون المعهودون دخولًا أوليًا أي تبقى مفتوحة لا تطرف كما قال الراغب من هول ما يرونه، وفي البحر شخص البصر أحد النظر ولم يستقر مكانه، والظاهر أن اعتبار عدم الاستقرار لجعل الصيغة من شخص الرجل من بلده إذا خرج منها فإنه يلزمه عدم القرار فيها أو من شخص بفلان إذا ورد عليه ما يقلقه كما في الأساس.
وحمل بعضهم الألف واللام على العهد أي أبصارهم لأنه المناسب لما بعده والظاهر مما روي عن قتادة فقد أخرج عبد بن حميد. وغيره عنه أنه قال في الآية: شخصت فيه والله أبصارهم فلا ترتد إليهم، واختار بعضهم حمل {ءالَ} على العموم قال: لأنه أبلغ في التهويل، ولا يلزم عليه التكرير مع بعض الصفات الآتية، وسيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى ما قيل فيه.

.تفسير الآية رقم (43):

{مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)}
{مُهْطِعِينَ} مسرعين إلى الداعي قاله ابن جبير. وقتادة، وقيده في البحر بقوله: بذلة واستكانة كإسراع الأسير والخائف، وقال الأخفش: مقبلين للإصغاء وأنشد:
بدجلة دارهم ولقد أراهم ** بدجلة مهطعين إلى السماع

وقال مجاهد: مد يمين النظر لا يطرفون، وقال أحمد بن يحيى: المهطع الذي ينظر في ذلك وخشوع لا يقلع بصره، وروى ابن الأنباري أن الإهطاع التجميح وهو قبض الرجل ما بين عينيه، وقيل: إن الإهطاع مد العنق والهطع طول العنق، وذكر بعضهم أن أهطع وهطع عنى وأن كل المعاني تدور على الإقبال {مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ} رافعيها مع الإقبال بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شيء، قاله ابن عرفة. والقتيبي.
وأنشد الزجاج قول الشماخ يصف إبلًا ترعى أعلا الشجر:
يباكرن العضاة بمقنعات ** نواجذهن كالحد الوقيع

وأنشده الجوهري لكون الإقناع انعطاف الإنسان إلى داخل الفم يقال: فم مقنع أي معطوفة أسنانه إلى داخله وهو الظاهر، وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المقنع بالرافع رأسه أيضًا وأنشد له قول زهير:
هجان وحمر مقنعات رؤسها ** وأصفر مشمول من الزهر فاقع

ويقال: أقنع رأسه نكسه وطأطأه فهو من الأضداد، قال المبرد. وكونه عنى رفع أعرف في اللغة اه، وقيل: ومن المعنى الأول قنع الرجل إذا رضي بما هو فيه كأنه رفع رأسه عن السؤال: وقد يقال: إنه من الثاني كأنه طأطأ رأسه ولم يرفعه للسؤال ولم يستشرف إلى غير ما عنده، ونصب الوصفين على أنهما حالان من مضاف محذوف أي أصحاب الأبصار بناءً على أنه يقال: شخص زيد ببصره أو الأبصار تدل على أصحابها فجاءت الحال من المدلول عليه ذكر ذلك أبو البقاء، وجوز أن يكون {مُهْطِعِينَ} منصوبًا بفعل مقدر أي تبصرهم مهطعين و{مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ} على هذا قيل: حال من المستتر في {مُهْطِعِينَ} فهي حال متداخلة وإضافته غير حقيقية فلذا وقع حالًا؛ وقال بعض الأفاضل: إن في اعتبار الحالية من أصحاب حسا ذكر أولًا ما لا يخفى من البعد والتكلف، والأولى والله تعالى أعلم جعل ذلك حالًا مقدرة من مفعول {يُؤَخِرُهُمْ} [إبراهيم: 42] وقوله سبحانه: {تَشْخَصُ فِيهِ الابصار} [إبراهيم: 42] بيان حال عموم الخلائق. ولذلك أوثر فيه الجملة الفعلية، فإن المؤمنين المخلصين لا يستمرون على تلك الحال بخلاف الكفار حيث يستمرون عليها ولذلك عبر عن حالهم بما يدل على الدوام والثبات، فلا يرد على هذا توهم التكرار بين {مُهْطِعِينَ} و{تَشْخَصُ فِيهِ الابصار} [إبراهيم: 42] على بعض التفاسير، وبنحو ذلك رفع التكرار بين الأول، وقوله تعالى: {لاَ يَرْتَدُّ طَرْفُهُمْ} عنى لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم حسا كان يرجع إليهم كل لحظة، فالطرف باق على أصل معناه وهو تحريك الجفن، والكلام كناية عن بقاء العين مفتوحة على حالها.
وجوز أن يراد بالطرف نفس الجفن مجازًا لأنه يكون فيه ذلك أي لا ترجع إليهم أجفانهم التي يكون فيها الطرف، وقال الجوهري: الطرف العين ولا يجمع لأنه في الأصل مصدر فيكون واحدًا ويكون جمعًا وذكر الآية، وفسره بذلك أبو حيان أيضًا وأنشد قول الشاعر:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي ** حتى يوارى جارتي مأواها

وليس ما ذكر متعينًا فيه وهو معنى مجازي له وكذا النظر، وجوز إرادته على معنى لا يرجع إليهم نظرهم لينظروا إلى أنفسهم فضلًا عن شيء آخر بل يبقون مبهوتين، ولا ينبغي كما في الكشف أن يتخيل تعلق {إِلَيْهِمُ} بما بعده على معنى لا يرجع نظرهم إلى أنفسهم أي لا يكون منهم نظر كذلك لأن صلة المصدر لا تتقدم، والمسألة في مثل ما نحن فيه خلافية، ودعوى عدم الجمع ادعاها جمع، وادعى أبو البقاء أنه قد جاء مجموعًا هذا، وأنت خبير بأن لزوم التكرار بين {مُهْطِعِينَ} و{لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} على بعض التفاسير متحقق ولا يدفعه اعتبار الحالية من مفعول {يُؤَخِرُهُمْ} [إبراهيم: 42] على أن بذلك لا يندفع عرق التكرار رأسًا بين {تَشْخَصُ فِيهِ الابصار} [إبراهيم: 42] وكل من الأمرين المذكورين كما لا يخفى على من صحت عين بصيرته. وفي إرشاد العقل السليم أن جملة {لاَ يَرْتَدُّ} إلخ حال أو بدل من {مُقْنِعِى} إلخ أو استئناف؛ والمعنى لا يزول ما اعتراهم من شخوص الإبصار وتأخيره عما هو من تتمته من الإهطاع والإقناع مع ما بينه وبين الشخوص المذكور من المناسبة لتربية هذا المعنى، وكأنه أراد بذلك دفع التكرار، وفي انفهام لا يزول إلخ من ظاهر التركيب خفاء، واعتبر بعضهم عدم الاستقرار في الشخوص وعدم الطرف هنا، فاعترض عليه بلزوم المنافاة، وأجيب بأن الثاني بيان حال آخر وأن أولئك الظالمين تارة لا تقر أعينهم وتارة يبهتون فلا تطرف أبصارهم، وقد جعل الحالتان المتنافيتان لعدم الفاصل كأنهما في حال واحد كقول امرئ القيس:
مكر مفر مقبل مدبر معا ** كجلمود صخر حطه السيل من عل

وهذا يحتاج إليه على تقدير اعتبار ما ذكر سواء اعتبر كون الشخوص وما بعده من أحوال الظالمين بخصوصهم أم لا، والأولى أن لا يعتبر في الآية ما يحوج لهذا الجواب، وأن يختار من التفاسير ما لا يلزمه صريح التكرار، وأن يجعل شخوص الأبصار حال عموم الخلائق وما بعده حال الظالمين المؤخرين فتأمل.
{وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} أي خالية من العقل والفهم لفرط الحيرة والدهشة، ومنه قيل للجبان، والأحمق: قلبه هواء أي لا قوة ولا رأي فيه، ومن ذلك قول زهير:
كأن الرحل منها فوق صعل ** من الظلمان جؤجؤه هواء

وقول حسان:
ألا بلغ أبا سفيان عني ** فأنت مجوف نخب هواء

وروي معنى ذلك عن أبي عبيدة. وسفيان، وقال ابن جريج: صفر من الخير خالية منه، وتعقب بأنه لا يناسب المقام. وأخرج ابن أبي شيبة. وابن المنذر عن ابن جبير أنه قال: أي تمور في أجوافهم إلى حلوقهم ليس لها مكان تستقر فيه، والجملة في موضع الحال أيضًا والعامل فيها إما {يَرْتَدَّ} أو ما قبله من العوامل الصالحة للعمل. وجوز أن تكون جملة مستقلة، وإلى الأول ذهب أبو البقاء وفسر {هَوَاء} بفارغة، وذكر أنه إنما أفرد مع كونه خبرًا لجمع لأنه عنى فارغة وهو يكون خبرًا عن جمع كما يقال: أفئدة فارغة لأن تاء التأنيث فيه يدل على تأنيث الجمع الذي في أفئدتهم، ومثل ذلك أحوال صعبة وأفعال فاسدة، وقال مولانا الشهاب: الهواء مصدر ولذا أفرد، وتفسيره باسم الفاعل كالخالي بيان للمعنى المراد منه المصحح للحمل فلا ينافي المبالغة في جعل ذلك عين الخلاء، والمتبادر من كلام غير واحد أن الهواء ليس عنى الخلاء بل بالمعنى الذي يهب على الذهن من غير أعمال مروحة الفكر، ففي البحر بعد سرد أقوال لا يقضي ظاهرها بالمصدرية أن الكلام تشبيه محض لأن الأفئدة ليست بهواء حقيقة. ويحتمل أن يكون التشبيه في فراغها من الرجاء والطمع في الرحمة. وأن يكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في الصدور وإنها تجيء وتذهب وتبلغ الحناجر. وهذا في معنى ما روي آنفًا عن ابن جبير. وذكر في إرشاد العقل السليم ما هو ظاهر في أن الكلام على التشبيه أيضًا حيث قال بعد تفسير ذلك بما ذكرنا أولًا: كأنها نفس الهواء الخالي عن كل شاغل هذا؛ ثم إنهم اختلفوا في وقت حدوث تلك الأحوال فقيل عند المحاسبة بدليل ذكرها عقيب قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الحساب} [إبراهيم: 41] وقيل: عند إجابة الداعي والقيام من القبور. وقيل عند ذهاب السعداء إلى الجنة والأشقياء إلى النار فتذكر ولا تغفل.

.تفسير الآية رقم (44):

{وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)}
{وَأَنذِرِ الناس} خطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم بعد إعلامه أن تأخير عذابهم لماذا وأمر له بإنذارهم وتخويفهم منه فالمراد بالناس الكفار المعبر عنهم بالظالمين كما يقتضيه ظاهر إتيان العذاب وإلى ذلك ذهب أبو حيان وغيره.
ونكتة العدول إليه من الإضمار على ما قاله شيخ الإسلام الإشعار بأن المراد بالإنذار هو الزجر عما هم عليه من الظلم شفقة عليهم لا التخويف للإزعاج والإيذاء فالمناسب عدم ذكرهم بعنوان الظلم، وقال الجبائي: وأبو مسلم: المراد بالناس ما يشتمل أولئك الظالمين وغيرهم من المكلفين، والإنذار كما يكون للكفار يكون لغيرهم كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر} [يس: 11] والإتيان يعم الفريقين من كونهما في الموقف وإن كان لحوقه بالكفار خاصة، وأيًا ما كان فالناس مفعول أول لأنذر وقوله سبحانه: {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} مفعوله الثاني على معنى أنذرهم هوله وما فيه. فالإيقاع عليه مجازي أو هو بتقدير مضاف، ولا يجوز أن يكون ظرفًا للإنذار لأنه في الدنيا، والمراد بهذا اليوم اليوم المعهود وهو اليوم الذي وصف بما يذهب الألباب وهو يوم القيامة، وقيل: هو يوم موتهم معذبين بالسكرات ولقاء الملائكة عليهم السلام بلا بشرى. وروي ذلك عن أبي مسلم، أو يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، وتعقب بأنه يأباه القصر السابق، وأجيب بما فيه ما فيه.
{فَيَقُولُ الذين ظَلَمُواْ} أي فيقولون، والعدول عنه إلى ما في النظم الجليل للتسجيل عليهم بالظلم والإشعار بعليته لما ينالهم من الشدة المنبئ عنها القول؛ وفي العدول عن الظالمين المتكفل بما ذكر مع اختصاره وسبق الوصف به للإيذان على ما قيل بأن الظلم في الجملة كاف في الإفضاء إلى ما أفضوا إليه من غير حاجة إلى الاستمرار عليه كما ينبئ عنه صيغة اسم الفاعل، والمعنى على ما قال الجبائي وأبو مسلم الذين ظلموا منهم وهم الكفار، وقيل: يقول كل من ظلم بالشرك والتكذيب من المنذرين وغيرهم من الأمم الخالية: {رَبَّنَا أَخّرْنَا} أي عن العذاب أو أخر عذابنا، ففي الكلام تقدير مضاف أو تجوز في النسبة، قال الضحاك. ومجاهد: أنهم طلبوا الرد إلى الدنيا والإمهال {إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي أمد وحد من الزمان قريب، وقيل: إنهم طلبوا رفع العذاب والرجوع إلى حال التكليف مدة يسيرة يعملون فيها ما يرضيه سبحانه.
والمعنى على ما روي عن أبي مسلم أخر آجالنا وابقنا أيامًا {نُّجِبْ دَعْوَتَكَ} أي الدعوة إليك وإلى توحيدك أو دعوتك لنا على ألسنة الرسل عليهم السلام، ففيه إيماء إلى أنهم صدقوهم في أنهم رسل الله سبحانه وتعالى.
{وَنَتَّبِعِ الرسل} فيما جاؤا به أي نتدارك ما فرطنا به من إجابة الدعوة واتباع الرسل عليهم السلام، ولا يخلو ذكر الجملتين عن تأكيد والمقام حري به، وجمع إما باعتبار اتفاق الجميع على التوحيد وكون عصيانهم للرسول صلى الله عليه وسلم عصيانًا لهم جميعًا عليهم السلام، وأما باعتبار أن المحكي كلام ظالمي الأمم جميعًا والمقصود بيان وعد كل أمة بالتوحيد واتباع رسولها على ما قيل.
{أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ} على تقدير القول معطوفًا على «فيقول» والمعطوف عليه هذه الجملة أي فيقال لهم توبيخًا وتبكيتًا: ألم تؤخروا في الدنيا ولم تكونوا حلفتم إذ ذاك بألسنتكم بطرًا وأشرًا وسفهًا وجهلًا {مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ} مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنياوية أو بألسنة الحال ودلالة الأفعال حيث بنيتم مشيدًا وأملتم بعيدًا ولم تحدثوا أنفسكم بالانتقال إلى هذه الأحوال والأهوال، وفيه إشعار بامتداد زمان التأخير وبعد مداه أو مالكم من زوال وانتقال من دار الدنيا إلى دار أخرى للجزاء كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38] وروي هذا عن مجاهد، وأيًا ما كان {فمالكم} إلخ جواب القسم، و{صَلَحَ مِنْ} صلة لتأكيد النفي، وصيغة الخطاب فيه لمراعاة حال الخطاب في {أَقْسَمْتُمْ} كما في حلف بالله تعالى ليخرجن وهو أدخل في التوبيخ من أن يقال ما لنا مراعاة لحال المحكي الواقع في جواب قسمهم، وقيل هو ابتداء كلام من قبل الله تعالى جوابًا لقولهم: {رَبَّنَا أَخّرْنَا} أي مالكم من زوال عن هذه الحال وجواب القسم لا يبعث الله من في القبور محذوفًا وهو خلاف المتبادر.
وهذا أحد أجوبة يجاب بها أهل النار على ما في بعض الآثار. فقد ذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى في أربع منها فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدًا، يقولون: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ} [غافر: 11] فيجيبهم الله عز وجل: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فالحكم للَّهِ العلى الكبير} [غافر: 12] ثم يقولون: {ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحًا إنا موقنون} [السجدة: 12] فيجيبهم جل شأنه {فَذُوقُواْ بما نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا} [السجدة: 14] الآية، ثم يقولون: {رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل} فيجيبهم تبارك وتعالى: {أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ} الآية، ثم يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37] فيجيبهم جل جلاله: {أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ} [فاطر: 37] فيقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالّينَ} [المؤمنون: 106] فيجيبهم جل وعلا: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} [المؤمنون: 108] فلا يتكلمون بعدها أن هو إلا زفير وشهيق، وعند ذلك انقطع رجاؤهم وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنم، اللهم إنا نعوذ بك من غضبك ونلوذ بكنفك من عذابك ونسألك التوفيق للعمل الصالح في يومنا لغدنا والتقرب إليك بما يرضيك قبل أن يخرج الأمر من يدنا.